"البيت المنتج".. إنجاز وتوفير وسعادة أسرية
البيت المنتج هو البيت الذي لا يكتفي بالاستهلاك فقط، وإنما ينتج بعضا مما يستهلكه، وهو خطوة مهمة لا تستهدف فقط توفير الأمن الغذائي والقضاء على غلاء الأسعار، ولكن تهدف إلى تفعيل دور المرأة الإيجابي والاجتماعي والإنتاجي، بما يساهم في تعزيز فاعليتها بعملية التنمية والتطوير في المجتمع، ودخولها لسوق العمل بالطريقة التي تعود عليها بالفائدة على شتى الأصعدة، فهو من ناحية يوفر لها دخلا معقولا تساهم به في نفقات الأسرة التي تزداد بصورة مخيفة في ظل غلاء الأسعار، ومن ناحية أخرى يتيح لها البقاء بالمنزل طوال الوقت، لرعاية أسرتها والقيام بالمهام المنزلية على الوجه الأكمل دون أي تقصير.
كان المنزل إلى عهد ليس ببعيد ينتج الكثير من احتياجات الأسرة، إذ كانت ربة المنزل إضافة لدورها الأساسي في تربية الأطفال والاعتناء بمنزلها، تقوم أيضا بصناعة المربات والعصائر والمخللات والصلصة والحلويات الشرقية والغربية، كما كان البعض منهن يشغل القفازات والكوفيات وأغطية الرأس والجوارب، وغيرها من الملابس الشتوية الثقيلة، وكذلك كانت بينهن من يقمن بحياكة الملابس، فضلا عن شغل قطع الديكور من الكانفاه والمكرميات ومفارش الكروشيه والبيلسيه، وتجيد أخريات أعمالا يدوية أخرى مثل تجميع الزجاج المعشق وتجميع كريستالات النجف ولف هدايا السبوع، إلى غير ذلك من الأعمال التي كانت تدرس بحصص التدبير المنزلي، والتي تدر دخلا لا بأس به للأسرة.
البيت منتج
"هدى البيجرمي" مدرسة.. قررت أن تعيد أفكار الزمن الجميل فأقامت مع زميلاتها وجيرانها جمعية أهلية لتبادل المنافع -وإن كانت لم تشهر رسميا بعد- تقوم فكرتها ببساطة على اختصاص كل واحدة من أعضاء الجمعية في إنتاج واحدة من احتياجات الأسرة وتزويد باقي العضوات بها، فتتخصص إحداهن مثلا في صنع الحلويات الشرقية والغربية، وتتخصص أخرى في تفصيل ملابس المدارس، وثالثة في صنع المربات والعصائر، ورابعة في المخللات، وخامسة في شغل الإبرة، وهكذا تحصل الجميع على احتياجاتهن بسعر التكلفة، وتتسابق كل منهن في تقديم ما يمكنها لباقي العضوات حتى تحصل بدورها على ما تقدمه لها الأخريات في جو من التكافل الاجتماعي الذي حث عليه ديننا الحنيف.
أما "مديحة يسري" فبعد أن أرغمها زوجها على لزوم المنزل، هداها تفكيرها إلى استغلال خبرتها للعمل في تركيب العطور وبيعها، وعرضت عليه الفكرة.. ولأنه كان يبقى في عمله إلى وقت متأخر من الليل من أجل تدبير الضروري من احتياجات أسرته، فقد اقتنع بأن ذلك أفضل لها من الوحدة والفراغ، فكان يصحبها في البداية لتسوق الخامات اللازمة، وسرعان ما تعلم أصنافها وكيفية انتقاء أجودها وأرخصها وأصبح يتسوقها بمفرده، وأبدى في ذلك مهارة ما كانت لتتوقعها منه، فضلا عن مهاراته البارعة في تسويق منتجاتها بين معارفه، وشيئا فشيئا اتسع المشروع، وأصبح لهم محل صغير لبيع العطور التي تصنعها أيديهم.
نسمة فرح
"نسمة البيومي".. أقعدها المرض عن الحركة وأجبرها على ترك عملها الشغوفة به في تطريز فساتين الزفاف، إلى أن جاء يوم زفاف إحدى قريباتها التي تحبها بشدة، فعرضت عليها رغم مرضها تصميم فستانها وتطريزه بنفسها، وافقت العروس على الفور وأحضرت لها ما طلبته منها من خامات، فقد كانت تعلم مهارتها في فن التفصيل والتطريز، وما هي إلا أيام حتى كان لديها فستانا ما رأته فتاة إلا وتمنت الزواج لكي يكون لها مثله، وتمضي أيام قليلة لتفاجأ "نسمة" بالعروس السابقة تطلب منها فستانا جديدا لإحدى قريباتها، وجدتها فرصة لكي تخفف عن زوجها حمل مصروفات البيت الثقيلة، خاصة مع ارتفاع تكاليف العلاج، فوافقت دون تردد وسرعان ما ذاع صيتها بين الأقارب والجيران، وشاء الرحمن أن يفتح أمامها أبواب الرزق على اتساعها، رغم عدم قدرتها على الحركة، فقامت بشراء قطعة أرض كبيرة من الدخل الذي جمعته لتقيم فوقها شقة ومشغل ومعرض لبيع وإيجار فساتين الزفاف.
وتفكر "خديجة إبراهيم" في مشروع بسيط لإعداد وتجهيز الولائم والوجبات الغذائية بمنزلها، وتوصيلها لمنازل عميلاتها من كبار الموظفات اللائي يفضلن طعامها المنزلي على أكل المطاعم والفنادق، ورغم بساطة تعليمها فإنها تتلقى الطلبات بالتليفون وترشد عميلاتها لقائمة متكاملة العناصر من النشويات والخضار واللحوم والفاكهة.
تقول "خديجة": استطعت بفضل هذه الفكرة تربية بناتي اليتيمات الأربع وتجهيزهن، والبنت الكبيرة تساعدني إذا كثرت الطلبات، أما الوسطى فسافرت للخارج مع زوجها، والأخريان تساعداني في الإجازة فقط، وباقي السنة تتفرغان لمذاكرتهما لتصبحا مثل عميلاتي من الناس "الهاي".
اتجاه عالمي
ولا يقتصر مفهوم "البيت المنتج" على إنتاج السلع والمنتجات على اختلاف أنواعها، وإنما يمتد ليشمل عمل المرأة من المنزل أيا كان هذا العمل.
تذكر "زينب محمد" ربة منزل أن هناك اتجاها عالميا لعمل المرأة من داخل المنزل (work at home) وأنها مارست هذه التجربة من خلال عملها كمترجمة فورية معتمدة للعربية لدى العديد من الشركات والبنوك، عندما كانت مرافقة لزوجها الذي كان يدرس الدكتوراه بالولايات المتحدة، ولم يكن عملها يتطلب الذهاب لمقر العمل، وإنما فقط الاستعداد لتلقي المكالمات الهاتفية طوال ساعات العمل المتفق عليها، والقيام بالترجمة الفورية لعميل هذه الخدمات عبر الهاتف وتتلقى راتبها على حسابها بالبنك.
وتقول إن العمل بهذه الطريقة كان مناسبا لها تماما؛ حيث وفر لها دخلا معقولا وأتاح لها البقاء بجانب رضيعها طوال الوقت، وإسباغ المزيد من حنانها عليه وجنَّبها مشقة الخروج به في طقس شديد البرودة، وإلحاقه بحضانة قد لا يتوافق معها ولن تكون -مهما كانت- في مثل رعايتها له، خاصة أنه كان في أشهر عمره الأولى، وتتمنى أن يتوافر مثل هذا النظام ببلدها.
وتؤكد "وداد عبد الشكور" -مصممة جرافيك بشركة دعاية- الرأي السابق قائلة: "غالبا ما كنت أسهر على إعداد التصميم المطلوب بالمنزل؛ لأن جو المكتب المزدحم المليء بالضوضاء لا يساعد على التركيز، وبعد الزواج فكرت في ترك العمل، خاصة أن عش الزوجية يبعد عن الشركة كثيرا والمواصلات صعبة ومكلفة، فطلب مني صاحب العمل أن أنهي التصميم الذي بدأته أولا، خاصة أن موعد تسليمه قد حان، فأنجزته وأرسلته بالبريد الإلكتروني، ووجدتها فرصة لكي أعرض عليه أن أستمر في العمل بهذا الأسلوب، فقبل الفكرة على مضض، لكن بعد فترة وعلى مدى شهور أثبتت التجربة نجاحها ورحب صاحب العمل بالفكرة وسمح لكثير من الزميلات بالعمل من المنزل، وهذا النظام جعلني أشعر بالتآلف والدفء الأسري، وساعدني على تخصيص وقت أكبر لزوجي وبيتي والحادث السعيد المنتظر.
البيت أوفر
وتتفق معهما في الرأي "رشا حسين" مصححة لغوية بإحدى دور النشر: "زوجي يحضر لي المطبوعات ويعيدها للدار بعد الانتهاء من تصحيحها وتدقيقها لغويا، وذلك أفضل لي ولأسرتي كثيرا؛ لأن جو الهدوء بالمنزل خاصة وقت السحر يساعد على التركيز والإجادة، كما أنني أقوم باستكمال ما بدأته بعد خروج زوجي لعمله والأولاد لمدارسهم، وعندما أفرغ من العمل في العاشرة صباحا أتفرغ لإعداد الغذاء وبقية المهام المنزلية.
وتؤكد "رشا" من خلال تجربتها أن العمل بالمنزل ساعدها على تنظيم وقتها، حيث أتاح لها اختيار الوقت المناسب للعمل، والتحكم كذلك في عدد الساعات التي يمكن لها استقطاعها دون التأثير على الواجبات الأساسية نحو البيت والأولاد، وأن ذلك وفر لها الوقت والجهد لكي تتشارك مع الزوج في متابعة دروس الأولاد والتحاور معهم في جو أسري يسوده التآلف والتعاون، مما كان له أكبر الأثر في تفوقهم الدراسي واتزانهم ودماثة أخلاقهم التي يشهد بها الجميع.
أما "رشا أمين" -فنانة تشكيلية- فترى أن العمل في البيت يوفر كثيرا في الملابس والأحذية ونفقات المواصلات التي تلتهم الجزء الأكبر من عائد العمل الضعيف، فضلا عن توفير الوقت والجهد الذي كان يبذل في الذهاب والإياب.
تقول: أذهب لعملي بالمرسم مرة واحدة في الأسبوع لتسليم أوراق البردي التي لونتها واستلام الأوراق الجديدة والألوان، في البداية الفكرة لم ترق لصاحب المرسم، ولكنه وافق عليها بعدما تبين له أنها الأفضل، إذ ساعدته على تقليص مساحة المرسم وأعفته من دفع الأقساط التأمينية لي ولزميلاتي اللائي فضلن العمل وفقا لهذا النظام على الحضور اليومي للمرسم.
وقفة أسرية
يتعجب "د. نبيل السمالوطي" عميد كلية الدراسات الإنسانية الأسبق بجامعة الأزهر من تراجع دور ربات البيوت الإنتاجي رغم فائض الوقت والجهد الهائل الذي وفرته لهن الأجهزة المنزلية الحديثة، ويرى أن سعي المرأة للخروج للعمل هو السبب الرئيسي وراء ذلك، مهما ضعف مردوده الإيجابي وتعاظم مردوده السلبي على كيان أسرتها، وكأن مغادرة المنزل أصبحت هدفا في حد ذاته، وأن تراجع ثقافة العمل وقيم الإنتاج في المجتمع لحساب قيم الاستهلاك والاستعلاء بشكل عام، وقتل الوقت أمام التلفاز أو في باحات اللهو والتسوق، من أسباب هذا التراجع، مما يتطلب وقفة جادة لمراجعة المواقف، والبحث عن صيغة بديلة تضمن الحفاظ على المرأة كقوة منتجة في المجتمع، وتضمن لها راحتها وتصون كرامتها، وتهيئ لكل فرد بالأسرة أن يبذل قصارى جهده ويستثمر وقته لراحة ونفع الأسرة جميعها والنهوض بمستواها.
ويلقي "أحمد المصري" -الناشط بالعمل الأهلي- العبء على الجمعيات الأهلية التي يجب أن تقوم من وجهة نظره بدور كبير في هذا المضمار، من حيث تدريب وتأهيل الفتيات على الأعمال اليدوية التي يستطعن ممارستها داخل بيوتهن، كالحياكة والتطريز وفنون الطهي والكتابة على الحاسوب، وتنظيم ورش العمل لصقل مهارات المشرفين والمدربين، وإمدادهم بكل ما هو جديد ومفيد في هذا المجال الحيوي، وإقامة جمعيات تطوعية متخصصة في كل نشاط من الأنشطة تقوم إلى جانب التدريب، وصقل المهارات بتزويد العاملات من منازلهن بالخامات اللازمة بأسعار تعاونية، وتتولى عنهن تسويق منتجاتهن للجهات التي بحاجة إليها بأسعار تفضيلية، مما يؤدي لتوفير فرص عمل جديدة في مجتمع ترتفع فيه نسبة البطالة، وظهور كيانات اقتصادية كبيرة على مستوى عال من الاحتراف.
ويضيف أن المؤسسة التعليمية عليها أن تعيد الاهتمام بحصص ومناهج التدبير المنزلي والأشغال، باعتبارها مكونا أساسيا للعملية التعليمية، وعليها أن توفر الخامات اللازمة لذلك، ويوصي بأن تفتح المدارس أبوابها في الإجازة الصيفية للراغبين في تعلم أصول التدبير المنزلي، وإقامة مهرجانات عملاقة على غرار مهرجانات القراءة للجميع تحت مسمى العمل للجميع، والعمل حياة.